عرقلة إسرائيل للسلام- تكتيكات الحرب المستمرة في غزة

لطالما دأبت إسرائيل، وقبل اندلاع جولة العنف الأخيرة في غزة، على إفشال المساعي الرامية إلى إرساء السلام.
بين الفينة والأخرى، تنشر صحيفة "نيويورك تايمز" بعض الحقائق المزعجة بشأن إسرائيل، الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة والمستفيد الأكبر من معونات وأسلحة أمريكية بمليارات الدولارات. ومع ذلك، فإن نشر الصحيفة لهذه الحقائق لا يعني بالضرورة أنها تعرضها بصورة مباشرة وشفافة.
في عام 2014، أوردت صحيفة نيويورك تايمز في تقريرها خبر الغارة الصاروخية الإسرائيلية التي أودت بحياة أربعة أطفال كانوا يمرحون بكرة القدم على شاطئ غزة. وبالرغم من أن النص نقل الواقع بوضوح، إلا أن العنوان جاء مبهمًا بشكل يدعو للسخرية: "فتيان ينجذبون إلى شاطئ غزة، ويقعون في صميم النزاع في الشرق الأوسط".
والآن، ومع تحول غزة ليس فقط إلى "بؤرة النزاع في الشرق الأوسط" بل إلى ساحة إبادة جماعية جلية، تعود الصحيفة مرة أخرى إلى التلاعب بالأخبار بطريقة مبتكرة، كما يتضح في عنوان يوم الثلاثاء: "إسرائيل كانت أقل مرونة في محادثات وقف إطلاق النار الأخيرة في غزة، وفقًا لوثائق".
الترجمة الصريحة لهذا العنوان هي: إسرائيل تعرقل مساعي وقف إطلاق النار في حرب أدت منذ يناير/كانون الثاني الماضي إلى مقتل 1% من سكان غزة الأبرياء.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى مقتل حوالي 40 ألف فلسطيني منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، في حين تفيد دراسة نشرتها مجلة The Lancet بأن العدد الحقيقي للضحايا قد يتجاوز 186 ألفًا. وفي المقابل، وافقت إدارة جو بايدن مؤخرًا على تزويد إسرائيل بأسلحة إضافية تقدر قيمتها بنحو 20 مليار دولار، حتى في الوقت الذي تزعم فيه الولايات المتحدة سعيها الحثيث لتحقيق وقف إطلاق النار.
تؤكد نيويورك تايمز بأسلوب ملتو على أنه في حين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دأب على نفي سعيه لعرقلة التوصل إلى اتفاق في غزة، وإلقاء اللوم على حركة حماس في الوصول إلى طريق مسدود، فإن الوثائق غير المنشورة التي اطلعت عليها الصحيفة "تظهر أن المناورات السرية التي يقوم بها نتنياهو كانت واسعة النطاق وتنم عن خبث".
في يوليو/تموز، قدمت إسرائيل "قائمة بشروط جديدة" إلى الوسطاء الأميركيين والمصريين والقطريين في محادثات وقف إطلاق النار، تضمنت "شروطًا أقل تساهلًا" من "مجموعة المبادئ" التي طرحتها سابقًا، مما يشير إلى تصلب في الموقف الإسرائيلي.
من بين هذه الشروط الجديدة، وبدلاً من أن تسحب إسرائيل قواتها العسكرية من قطاع غزة في حالة سريان وقف إطلاق النار، فإنها تصر على الاحتفاظ بالسيطرة على الحدود الجنوبية لغزة مع مصر. فكيف يمكن للفلسطينيين أن يتقبلوا استمرار هذا الاحتلال العسكري البغيض!
كما جددت إسرائيل تمسكها بإقامة نقاط تفتيش يتولى فيها الجنود الإسرائيليون عمليات تفتيش دقيقة عن الأسلحة على الفلسطينيين النازحين العائدين إلى ديارهم المدمرة في شمال غزة، وهو شرط بغيض للغاية بالنظر إلى أن الطرف الذي يفرضه هو من يرتكب حاليًا إبادة جماعية باستخدام شتى أنواع الأسلحة المحرمة.
إنها استراتيجية ماكرة لتحريك الهدف باستمرار. فكلما اقتربت صفقة وقف إطلاق النار من التحقق والتجسيد على أرض الواقع، يضيف نتنياهو حزمة جديدة من المطالب التعجيزية التي يعتبرها حتى أعضاء من مؤسسته الأمنية ضربًا من الجنون والمبالغة.
إلى جانب استرضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يرى في أي توقف للقتل الجماعي أمرًا غير مقبول، لدى نتنياهو دوافع أخرى لتعطيل المفاوضات. فإذا توقفت الحرب المشتعلة، فسيتعين عليه مواجهة تهم الفساد الموجهة إليه والمعارضة الداخلية الشرسة، إضافة إلى المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية التي قدم مدعيها العام طلبًا لإصدار مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب شنيعة في قطاع غزة.
في نهاية المطاف، لم تكن إسرائيل يومًا راغبة في السلام؛ بل إن المشروع الإسرائيلي برمته يقوم على استمرار حالة الحرب وسفك الدماء. ولا يحتاج المرء إلى الغوص عميقًا في تاريخ إسرائيل الحافل بالتخريب ليس فقط لصفقات وقف إطلاق النار بل أيضًا لـ "عملية السلام" المزعومة بشكل عام، وكل ذلك بالطبع مع تحميل الفلسطينيين وحدهم مسؤولية كل إخفاق في التوصل إلى حل عادل وشامل.
في العام الذي سبق الانسحاب الإسرائيلي الرسمي من قطاع غزة عام 2005، والذي أنهى ظاهريًا احتلال إسرائيل للقطاع، صرح كبير مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، دوف ويسغلاس، لصحيفة هآرتس بملخص للصفقة. وأوضح ويسغلاس لصحيفة هآرتس أن "أهمية خطة فك الارتباط" عن غزة تكمن في "تجميد عملية السلام تجميدًا كاملاً".
وتابع قائلاً: "وعندما تتجمد تلك العملية، فإنك تمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وتمنع مناقشة قضايا اللاجئين والحدود والقدس الشائكة". وهكذا: "فعليًا، تم استبعاد كل هذه الحزمة المسماة الدولة الفلسطينية، بكل ما تنطوي عليه من تفاصيل، بشكل قاطع من جدول أعمالنا… كل ذلك بمباركة أمريكية رئاسية ودعم من كلا المجلسَين في الكونغرس".
وبطبيعة الحال، يمكنك أيضًا إزالة حزمة الدولة الفلسطينية برمتها من جدول الأعمال ببساطة عن طريق القضاء الوحشي على جميع الفلسطينيين. ومع استمرار هذه الجرائم الجماعية البشعة بالتزامن مع اقتراب جولة المفاوضات الجديدة الوهمية، فإن زعم صحيفة نيويورك تايمز بأن "الاتفاق قد يكون صعبًا" هو في الواقع تزييف صارخ وتصغير مروع لحجم المأساة الحقيقية التي يعيشها الشعب الفلسطيني.